دخلت محافظة الإسكندرية نفقًا مظلمًا جديدًا على يد مسئوليها، لا أحد يعرف متى يمكن أن تخرج منه؛ بسبب الغموض والارتباك المسيطرَيْن على عمل اللجنة المنظِّمة لاحتفالية اختيار الإسكندرية عاصمةً للثقافة الإسلامية.
فرغم مرور شهرين على بدء العام لم تَظهر بعدُ أيُّ مظاهر ملموسة توحي بوجود استعدادات أو برامج أو احتفاليات من أجل هذه المناسبة المرتقبة، لا سيما أن معظم شوارع الإسكندرية بها إصلاحاتٌ، ويجري العمل فيها؛ وهو الأمر الذي دفع الكثير من السكندريين إلى توجيه العديد من الانتقادات حول ضعف الاستعدادات والخوف من ضياع الوقت دون الاستفادة من هذا العرس الثقافي المهم، وخاصةً أنه دولي.
الانتقادات طالت سرية أعمال اللجنة المنظِّمة لهذه الاحتفالية، والتي تُدار كغيرها من الأمور التي تتم خلسةً داخل المحافظة، ثم تخرج بعدها بياناتٌ ركيكةٌ وباهتةٌ، بدايةً من تأخُّر تشكيلها، وأهمية المشاركين فيها بداية العام، عندما أعلن اللواء عادل لبيب محافظ الإسكندرية عن تشكيل لجنة برئاسة اللواء صفاء الدين مصطفى نائب المحافظ، تضمُّ ممثلي جميع الوزارات والهيئات لإعداد احتفالية تليق بالحدث، وما تبعها من تصريحات "فشنك" للقائمين عليها، والتي لا تخلو من مجرد أمنيات؛ من أجل إظهار المدينة بالشكل اللائق، وإعداد البرامج الجديرة بهذه المناسبة الدولية، ثم أعقبها الكثير من الاجتماعات الأخرى التي لم تُسفر عن شيء أو خطة عمل أو حتى برنامج تم إعداده ولم نسمع تصريحات قوية أو غير قوية.
ومع مرور الوقت ارتفع سقف الأمنيات، وأعلن المحافظ- خلال إحدى الندوات بالإسكندرية- أنه سيتم بهذه المناسبة دعوة طلاب الجامعات الإسلامية والعربية لزيارة المدينة والتعرُّف على مقوِّماتها التاريخية، وأيضًا- وكالعادة- لم يحدد سيادته الوقت أو طريقة إرسال هذه الدعوات.
وأخيرًا.. انتهز المحافظ فرصة عقد معرض الإسكندرية الدولي للكتاب بمكتبة الإسكندرية في 21 فبراير، وأعلن اختيار الإسكندرية عاصمةً للثقافة الإسلامية، إلى جانب مدينتَي لاهور وجيبوتي، رغم أن فكرة عاصمة الثقافة الإسلامية تمَّ التطرُّق لها للمرة الأولى في عام 2001 في اجتماعات المنظَّمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم "إيسيسكو"، وبدأت بتطبيقها عام 2005 باختيار مدينة مكة التي شهدت ظهور الدين الإسلامي كأول عاصمة للثقافة الإسلامية، وتم تطبيقها فعلاً في سنوات 2006 و2007، وتم تحديد عواصم للثقافة الإسلامية بالأبعاد الثلاثة حتى عام 2012م.
ويقول أسامة جادو عضو مجلس الشعب عن دائرة غربال بالإسكندرية: إن اختيار الإسكندرية عاصمةً للثقافة الإسلامية أمرٌ مهمٌّ لإبراز سمات الحضارة الإسلامية ومظاهرها بالإسكندرية، ومضى شهران من العام الجديد ولم تنفِّذ الحكومة المصرية شيئًا في هذا الإطار، وتحوَّلت الأجهزة داخل المحافظة إلى جزر منعزلة، لدرجة أن أحدًا لم يشعر بهذا الحدث، على الرغم من تطلُّع العالم الإسلامي إلى أن يرى صورة الإسكندرية كمنارةٍ للثقافة الإسلامية خلال هذا العام.
وقدَّم النائب طلب إحاطة تساءل فيه عن دور وزارة الثقافة وخطتها وفعاليتها؛ فهي المعني الأول بهذا التحدي، وأين دور وزارة الأوقاف ومشاركاتها الفعَّالة وإسهاماتها للتعريف بمدينة الإسكندرية كحاضرةٍ للثقافة الإسلامية عبر أربعة عشر قرنًا من الزمن؟!
ووصف عدم اهتمام الأجهزة الحكومية بالحدث، رغم أهميته، بالمؤامرة لنزع الإسكندرية من هويتها الإسلامية ومسخ تاريخها الممتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمن، بالإضافة إلى تهديد سمعة مصر، مشيرًا إلى أن اختيار الإسكندرية رسالةٌ لها بُعدٌ عالميٌّ، والإعلام الخارجي يرصد ويحلِّل ولا يجامل.
وهو ما أكده الشاعر والكاتب محمد طعيمة، قائلاً: هناك تعمية عن أخبار اختيار الإسكندرية عاصمةً للثقافة الإسلامية وتعمُّد إخفائه، إلى جانب عدم الاهتمام به عن طريق إغفال دور المتخصصين وتحويل الأمر إلى مجرد حشْدٍ للثقافة الرسمية لما يؤيِّد وجهة النظر الرسمية فقط؛ فمعظم القائمين على الاحتفالية موظفون منقطعو الصلة بالثقافة، ولا علاقةَ لهم بالموضوع!!.
وأكد طعيمة أن الإسكندرية تُعتبر مهدًا وملتقًى للديانات السماوية الثلاث، وهذا ما تعكسه مساجدها الأثرية ومعابدها وكنائسها، كما أنها كانت مقصدًا للمتصوِّفين وطلاب العلم وعلماء الدين في العصر الإسلام، مشيرًا إلى أن اختيار المنظَّمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" الإسكندريةَ عاصمةً للثقافة الإسلامية عام 2008 يعمل على إثراء الحياة الفكرية والثقافية بالمدينة.
وأوضح محمود عوضين وكيل الوزارة ورئيس إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي سابقًا أن هذا الاختيار يُعدُّ تتويجًا للتاريخ الثقافي والحضاري لهذه المدينة التي ظلَّت عبر التاريخ ملتقًى للثقافات والحضارات، وجسرًا للتواصل الثقافي بين الشرق والغرب.
وشدَّد على ضرورة استغلال هذا الحدث المهم، وأن يتضمَّن برنامج الاحتفاليات إقامة العديد من الملتقيات الدينية طوال العام تستهدف إبراز العطاء الحضاري للإسلام، كما تنظِّم الوزارة حلقةً نقاشيةً عنوانها: "الإسكندرية.. أول عاصمة للدولة الإسلامية في إفريقيا"، وعددًا من الأمسيات الدينية بالمساجد الأثرية، يشارك فيها كبارُ العلماء والمتخصِّصون، للتعريف بالأعلام الذين أُطلقت أسماؤهم على هذه المساجد مثل الإمام البوصيري، والمرسي أبو العباس، وسيدي بشر، وسيدي جابر، وغيرهم من أعلام التصوف الإسلامي.
وطالب عوضين بإعادة ترميم الآثار الإسلامية بالإسكندرية؛ وفقًا للأصول العلمية والفنية السليمة وإعادتها إلى حالتها الأصلية، وتنظيم ندوة دولية يُدعَى إليها علماءٌ ثقاتٌ للتعريف بالحضارة الإسلامية، وأن يتضمن البرنامج أيضًا إقامة عدة ندوات في الجامعات والمعاهد العليا ومراكز الثقافة الإسلامية لكبار الدعاة ولقاءات أخرى عديدة مع الجماهير، خاصةً في التجمعات الشبابية والمدارس الثانوية ومراكز الشباب والتجمعات العمالية، فضلاً عن إعداد معرض خاص بالمخطوطات الإسلامية بمحافظة الإسكندرية.
وأوضح الشاعر أحمد شبلول عضو مجلس إدارة اتحاد كتَّاب مصر أجواءَ الاحتفال التي وصفها بغير المبشرة أو المشجِّعة لأي تعاون مع المتخصصين من الكتَّاب والمثقفين بعد إسناد الأمر إلى مجموعةٍ من كبار الموظفين، حتى إنَّ فرع اتحاد كتاب مصر في المحافظة، وهو من المفترض مساهمته في تنفيذ أية خطة أو برنامج، لم يشارك في هذه الاجتماعات أو التنظيم، فما بالك بالفرد العادي؟!
وقال: أخشى أن نفقد الوقت دون الاستفادة أو تحقيق أي مستهدف، بعد أن ضربت الفوضى استعدادات المحافظة، وفتحت الباب أمام الجميع، من له ومن لا يعرف غير اسم الحدث، بعد أن اختلطت الأوراق، وتداخلت الاختصاصات، وضاعت الهيبة، ولم يعُد أحد يعرف ماذا يمكن أن يحدث مع مناسبة ضخمة تحتاج لمزيد من الجهد والعرق والتخصص؛ حتى لا يتكرَّر "صفر" جديد بعد الصفر المونديالي الشهير؟!
وقال الشاعر صبري أبو علم: "أن اختيار الإسكندرية حدثٌ فريدٌ موفَّق، يستحق أن يُحتفل به، كان يلزم الإعداد له جيدًا، خاصةً أن هذا الاختيار لم يكن مفاجأةً لأحد؛ فالترتيب مُعَدٌّ منذ أربع سنوات، وما يحدث في الإسكندرية "مصيبةٌ سوداء"، بل وكارثةٌ من العيار الثقيل في مصر، تهدِّد سمعة مصر ومكانتها؛ لما لها من عواقب وخيمة تتجاوز الحاضر، وجميع الأجهزة مقصِّرة".
وانتقد أبو علم أعمال الحفر والتكسير في شوارع ومرافق الإسكندرية التي أخرجت أحشاء الشوارع والميادين دون أن تُعيدَها مرةً أخرى، بعد أن فشل المسئولون في إنجازها وتحقيق حلم الجميع في الاستفادة من هذا الحدث، وقال: "كنت أتوقع أن تقوم الدنيا ولا تقعد، ليس في الإسكندرية فقط ولكن في مصر كلها، فكفانا أصفارًا في الرياضة وفي الجامعات".
ويرى الدكتور محمد رفيق رئيس أتيليه الإسكندرية الحديث أن تأخر الاحتفالات لا يدعو إلى القلق، بشرط أن تتضافر جهود المؤسسات المختلفة؛ حيث تشارك فيها الجهات العلمية والرسمية والأجهزة التنفيذية بالمحافظة، وتنظم الندوات واللقاءات المفتوحة التي تبرز المقوّمات الحضارية والثقافية للمدينة عبر العصور، لافتًا النظر إلى أن إنجاح هذه المظاهرة الوطنية لا يمكن أن يقتصر على الجهات الرسمية فقط، بل كافة المعنيين بهذا الأمر، لا سيما الباحثون والمختصون بالتراث.