هل تؤمنون بالفأل؟؟ أعلم أن البعض بل الكثيرين منكم يعتبرون هذا الكلام
خرافات ومعتقدات بالية، ودربا من التخلف.. وأعلم أيضا الإجابة على سؤالي،
فليس هناك من جيل الإنترنت من يؤمن بكثير من الأمور الغيبية، وأستطيع أن
أرى هذا في إخوتي الصغار الذين لا يؤمنون ولا يعترفون -مثلهم كباقي أبناء
الجيل- بالفأل الذي لم يعد موجوداً سوى في الأشخاص الباقين من الماضي، ولم
يتبق منه سوى عبارة: "أنا اصطبحت بوش مين النهارده!!"..
..ولكن يبدو أنني مختلفة قليلاً عن أبناء جيلي في هذا الأمر.. ربما كان
السبب هو تربيتي على يد "جدو" و"تيتة"، وتقديسي للعائلة و"لمّتها"، وتعودي
حتى قبل أن أخطو أولى خطواتي على الاستيقاظ المبكر والذهاب مع "جدو" لشراء
"البليلة" و"الكسكسي" لنغرقهما باللبن والسكر لزوم الفطور الأول، ثم شراء
الفول والطعمية وباقي شلتهما من أجل الفطور الثاني مع باقي أفراد
العائلة.. وربما لكوني أكبر الأحفاد، مما جعلني آخذ سناً أكبر من سني
لأتمتع دون غيري من أحفاد العائلة بالجلوس في جلسات الكبار والاستماع
للأحاديث والحكايات عن الماضي وغرائبه؛ فتشبعت بقدر لا بأس به من الإيمان
بالغيب والمعتقدات الغيبية التي لا تفسير لها.. ولكن بما أنني أيضاً من
جيل الإنترنت؛ فقد حاولت مراراً وتكراراً تجاهل بعض هذه المعتقدات.. ولكن
أحياناً -بصراحة ليست كثيرة- لا أستطيع الفرار من إيماني الراسخ بالغيبيات
والمعتقدات القديمة الغريبة.. سامحوني يا جيل الإنترنت.. فقد تعد هذه
خيانة، لوقوفي في صف الماضي ضدكم هذه المرة...
منذ سنوات ليست بالكثيرة، كنت ساهرة لأذاكر على أنغام إذاعة الشرق
الأوسط -مكنتش باعرف أذاكر غير كده حد عنده مانع!!- وفجأة سمعت أصوات
خرفشات على باب شقتنا، ثم أنات تشبه أنات مريض يتألم، وبعد محاولات لمعرفة
مصدر الصوت دون فتح الباب؛ ذهبت لأوقظ أبي وأنا أرتجف.. عندما خرج أبي
اكتشف أنها مجرد قطة تموء بطريقة مزعجة أمام بابنا فصرفها، وهدأني، ودخل
ليكمل نومه، ثم عادت من جديد، ولكن على الأقل هذه المرة كنت أعرف مصدر
الصوت؛ فرفعت صوت الراديو قليلاً، ولكن صوتها كان يخترق أذني وسط أصوات
برامج الراديو وأغانيه، وظلت هكذا حتى الفجر.. في الصباح دار هذا الحوار
بيني وبين أمي:
- هوّ كان في إيه بالليل؟!
- دي قطة رخمة كانت عمالة "تأوأ" طووول الليل وحتى بابا مشّاها بس هي برخامتها رجعت تاني..
- ربنا يستر.. القطة دي أنا مشوفتهاش قبل كده، بس أفتكر إنها قعدت تنوح
كده من كام سنة بعدها ماتت الست صاحبة العمارة، وبعدها بكام سنة اتكرر نفس
الموضوع ومات جوز الست دي..
- أكيد صدفة يا ماما أنت هتقلقينا ليه ع الصبح بس!! ربنا يستر بقى...
وظلت هذه البغيضة التي لم يرها أحد منا حتى الآن -حتى أبي الذي صرفها
فقد كان السلم مظلماً وقتها- تموء، وتئن، وتنوح أمام بابنا لأسابيع طويلة
لدرجة أننا اعتدنا سماعها، ولم نكترث لها، ولا لنحيبها بعد مرور بضعة
أسابيع وكل شيء بخير.. وفجأة مرضت جدتي ودخلت المستشفى، ثم مرض أبي بعدها
مباشرة مرضاً شديداً.. والمواء مستمر.. أسابيع قليلة، وماتت جدتي -رحمها
الله.. ثم استقر أبي على فراش المرض يعاني شهوراً وشهوراً، وتلك المقيتة
صاحبة الذيل النجس مستمرة في موائها ونحيبها وأنّاتها المؤلمة، وقلوبنا
أنا وأمي ترتجف، وتظهر رجفاتها في نظرات متبادلة بيننا لها معنى، ولكن دون
أن تجرؤ ألسنتنا على البوح والكلام.. واستمر مواؤها ونحيبها أكثر من ستة
أشهر، بعدها.. مات أبي.. واختفى صوتها مع دعواتنا لأبي وجدتي بالرحمة
وللقطة الباكية بالذهاب دون رجعة.. ثم تأتي القطة بعد سنتين لتنتحب أمام
باب شقتنا ويختفي نحيبها ليخفي معه اسم خال والدتي من أفراد العائلة
الأحياء... إن شاء الله صدفة برضه..
منذ أيام قليلة، عادت القطة الكئيبة للنحيب على سلم عمارتنا لتصيبني
بالاكتئاب والرعب على كل من أحبهم.. وفي عصر يوم أعود للبيت لأسمع أصوات
النحيب والبكاء وأرى السواد في كل مكان؛ فأصعد مسرعة إلى شقتنا لأطمئن..
- ماما.. انتوا بخير؟؟ فيه إيه؟!!
- ده فلان ابن جارتنا اتوفى النهارده.. كان نايم كويس خالص والصبح جت تصحيه لقيته...
- إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. ربنا يصبّر أهله..
.. ويمر الليل دون مواء ولا أنات سوى بعض أنات جارتنا التي فقدت ابنها
الشاب -أعانها الله- وفي الصباح ألتقي بأمي مجدداً على مائدة الإفطار..
- تعرفي يا ماما.. أنا طبعاً زعلانة جداً على جارنا وعلى مامته المسكينة،
بس الحمد لله إن "نونوة" و"وأوأة" القطة الكئيبة دي مجاش فينا المرة دي..
- متقوليش كده يا بنتي ده كله قضاء ربنا وقدره.. أنا محبكيش تعتقدي في الحاجات دي..
.. ثم تشيح بوجهها عني وهي تتمتم:"ألف حمد وشكر ليك ياااااارب....".
(الأحداث السابقة كلها بالفعل حقيقية.. ولكن
طبعاً التشاؤم من حيوان أو طائر أو حتى من أي شيء هو خطأ فادح يقع فيه
الكثير من الأشخاص كما وقعت فيه أنا أيضاً.. ولكن التجارب المريرة غالباً
ما تضع الإنسان تحت ضغوط نفسية يصعب معها تحكيم العقل.. فلا تؤاخذوني..
ولا تتشاءموا